العلاقة بين السكان والتنمية والفقر على صعيد الاقتصاد الكلي

في - السبت 12 أغسطس 2006

من القضايا الهامة التي اخذت لفترات طويلة ، كثيرا من الجدل والبحث واهتمام المعنين بمستوى الاقتصاد، هي مسألة النمو السكاني وعلاقته بالنمو الاقتصادي وبمستوى الفقر. فمنهم من يرى أن نمو السكان هو عامل محفز يؤثر إيجابا على معدلات نمو الدخل القومي فمع زيادة السكان يزداد الكم المعرفي نتيجة للتقدم التكنولوجي الذي تولده زيادة الطلب على إنتاج السلع والخدمات، وآخرون يرون ان النمو السكاني عامل يؤثر سلبا على النمو الاقتصادي، فارتفاع نمو السكان يعيق نمو الدخل القومي، فمع تزايد أعداد السكان يزداد استنزاف الموارد المادية والطبيعية والاقتصادية.

وفي ظل اختلاف وجهات النظر حول طبيعة العلاقة بين نمو السكان والنمو الاقتصادي، ظهرت فكرة ثالثه اعتبرت ان النمو السكاني عامل محايد في النمو الاقتصادي ويتحدد خارج نماذج النمو القياسية .. وهذا الاختلاف في وجهات النظر والاراء كانت لها تبعات كبيرة ومؤثرة كان آخرها واخطرها بعدا على العمل السكاني هو وجهة النظر التي تنص على ان نمو السكان عامل محايد في النمو الاقتصادي. وكان توظيف هذه النتائج خلال العقود الأخيرة لتبرير حيادية النمو السكاني قد ادى إلى التقليل من الأثر المتبادل بين النمو السكاني والنمو الاقتصادي وساهم في عدم إعطاء القضايا السكانية الأولوية التي تستحقها في سياق إنشاء السياسات المتكاملة في العديد من الدول.

والملاحظ إن الصراعات بين المدارس الفكرية المختلفة وعدم تمكنها من إثبات فرضياتها بشكل مطلق يعود إلى أن تركيزها كان بالمجمل على حجم ونمو السكان ولم تعطي الاهتمام الكافي لمسألة التركيب العمري للسكان واتجاهات تغيره واثر ذلك على النمو الاقتصادي فهناك لكل فئة عمرية سلوك ومتطلبات مختلفة ويترتب عليها نتائج اقتصادية مختلفة أيضا. فحاجات السكان الأطفال واليافعين تتطلب تكثيف المزيد من الاستثمارات في الصحة والتعليم ، أما الشباب في المراحل الأولى من سن العمل فهم مكون أساسي لغرض العمل وزيادة الادخار ، ومع التقدم في السن ترتفع الحاجة الى تكثيف الرعاية الصحية مع ضمان دخل تقاعدي للمسنين .. حيث اشارت بعض الدراسات القياسية التي اجريت في بعض البلدان إلى أن التغيرات السكانية ممثلة بارتفاع نمو السكان في سن العمل ساهمت بمقدار 50بالمائة من النمو الاقتصادي لهذه البلدان ما بين 1970 و 1990.

وخلاصة الاستنتاجات في هذا المجال ان النمو الاقتصادي يتسم بالبطئ عندما يكون نمو السكان في سن العمل منخفضا عن نظيره نمو اجمالي السكان ، ويتحسن النمو الاقتصادي عندما يتعدى نمو السكان في سن العمل نظيره نمو اجمالي السكان. ويحدث ذلك نتيجة انحسار الفجوة الى فارق ايجابي ضئيل جدا بين متوسط دخل الفرد من اجمالي الناتج المحلي ومتوسط حصة العامل من الناتج.

وقد وضحت هذه العلاقة في المؤتمر الدولي للسكان في وثائقه التي اكدت على أن العلاقة بين السكان والنمو الاقتصادي المطرد والفقر هي علاقة متبادلة ومتعاضدة. فتواكد في الفصل الثالث حول اوجه الترابط بين السكان والنمو الاقتصادي المطرد والتنمية المستدامة على "أن الأنشطة اليومية لجميع البشر والمجتمعات المحلية والبلدان ترتبط بالتغير السكاني وأنماط ومستويات استخدام الموارد الطبيعية وحالة البيئة وسرعة التنمية الاقتصادية والاجتماعية ونوعيتها. وهناك اتفاق عام على أن استمرار انتشار الفقر على نطاق واسع فضلا عن اوجه الجور الخطيرة ، الاجتماعية والقائمة على نوع الجنس ، لها اثر كبير على البارامترات الديموغرافية مثل نمو السكان وهيكلهم وتوزيعهم ، كما أنها تتأثر بذلك. وهناك اتفاق عام أيضا على أن أنماط الاستهلاك والإنتاج غير المستدامة لا تفتأ تسهم في الاستعمال غير المستدام للموارد الطبيعية وتدهور البيئة فضلا عن زيادة الجور الاجتماعي والفقر مما يقترن بالنتائج السالفة الذكر للبارامترات الديموغرافية". (فقرة 3.1 ، صفحة 17 ).

ان الاثر المتبادل لانخفاض الخصوبة والوفيات المقرونة بزيادة تراكم راس المال في عملية النمو الاقتصادي له إمكانية تفسير النتائج الايجابية في بلدان عديدة ، حيث ان اثر التغذية الاسترجاعية الذي يظهر بين كل عامل من العوامل له إمكانية مضاعفة في التأثير على العوامل الخارجية المؤثرة عليه وهذا التغيير الديموغرافي يؤثر على مخرجات عملية الإنتاج مباشرة من خلال عرض قوة العمل ويؤثر بشكل غير مباشر من خلال الادخار والاستثمار وبالتالي على تراكم راس المال.

من ناحية أخرى فان مستوى الدخل وتخزين راس المال يؤثر على الخصوبة والوفيات. فعندما يتسع الهرم العمري للسكان يرتفع الإنفاق الحكومي والعائلي على الاستهلاك مؤديا إلى انخفاض الادخار وعندما يتحسن مستوى الدخل وتخزين راس المال فان تأثيره ينعكس على الخصوبة والوفيات ، ويعود ذلك إلى تحسن مستوى رفاه العائلة الصحي والتعليمي وبالتالي إلى تغير في سلوكها الإنجابي.

ويؤثر الدخل على راس المال ، إذ يرتفع وينخفض تبعا للقيمة المضافة التي يولدها راس المال. وبدوره أي راس المال يؤثر على الدخل من خلال الادخار. إذ يرتفع الادخار عندما تنحسر قاعدة الهرم السكاني وترتفع نسبة السكان في سن العمل ويتيح ذلك المزيد من النمو الاقتصادي نتيجة ارتفاع حصة العاملين في الناتج.

ويمكن توسيع هذا المخطط ليتضمن عوامل خارجية تتدخل ويكون لها تبعات على المتغيرات الداخلية المكونة للنظام. فمثلا السياسات السكانية ومن ضمنها برامج الصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة قد تعجل من انخفاض معدلات الخصوبة وتغير البنية العمرية للسكان. وهذا التغير في البنية العمرية للسكان بدوره ينطوي على تغيير في اتجاهات الادخار والاستهلاك وبالتالي له تأثير مباشر على متوسط دخل الفرد ومن خلال تأثيره على معدلات الإعالة وحجم قوة العمل. فعندما نقارن تأثير نمو السكان في سن العمل مع تأثير نمو السكان الكلي يظهر بوضوح الاثر الكبير للهيكل العمري للسكان على النمو الاقتصادي.

المرجع المنتدى العربي للسكان 19-11-2004 بيروت
د. فهد محمود الصبري